قصص اللجوء من بودروم التركية



عندما طلب مني فريق سكاي نيوز عربية بتغطية ازمة اللجوء السوري الى اوروبا عبر تركيا وبالتوجه الى مدينة بودروم التركية لمتابعة التغطية التي نقوم بها، شعرت بمسؤولية كبيرة بعد عشرة ايام على انضمامي الى فريق عمل القناة في بيروت..
في الطريق الى بودروم، وعلى متن الطائرة، رحت اتخيّل حجم المعاناة التي يغرق بها اللاجئون السوريون في انتظار "بلم" او مركب صغير يقلهم الى الضفة المقابلة لبحر ايجه..
ولشدة الحماسة التي رافقتني، والتحدي الذي وضعته لنفسي في هذه التغطية، توجهت مباشرة انا ومصور تركي زميل يعمل في القناة مباشرة الى موقف الحافلات في بودروم فور وصولي الى مطار المدينة..
ورغم التعب والارق، اعددت تقريري الاول من هناك في غضون ساعات، وبدأت اتعرف اكثر على معاناة حقيقية وحياة قاسية ويوميات بائسة يعيشها عشرات الالاف في المدينة..
مشاهد وقصص وعائلات تتوزع في كل زاوية من زوايا المدينة الافخم في تركيا والتي تعتبر مصيفا لاهم الشخصيات العالمية والتركية..
في اليوم الاول من التغطية، تناسيت جمال المدينة وجاذبيتها، وبحرها وشمسها، وغصت في تفاصيل صغيرة في حياة هؤلاء..
بكاسة شاي مع مجموعة من الشبان السوريين في "البازار" وبالقرب من عشرات الحافلات المتوقفة، بدأت القصص تتتالى..
بالقرب من موقف الحافلات في وسط المدينة، مئات اللاجئين كانوا ينتظرون رحلة العبور الى اوروبا عبر البحر.. مشاهدات مؤثرة من اليوم الاول في بودروم، لاجئون غارقون في تساؤلات عن مستقبلهم.

التقيت عمر ومحمد وظافر في مقهى بالقرب من موقف الحافلات، عبروا البحر ولكنهم اخفقوا، وكانوا يحضرون لرحلة ثانية في "البلم".. احدهم قال لي: "الموت يواجههنا في كل الاحوال، البحر امامك والموت خلفك، ولم يعد يفرق معنا الموت، وبمجرد وصولنا الى اوروبا فنحن سنولد من جديد".

ومن البازار قصص لا تعد ولا تحصى، شباب وعائلات مصرة على العبور الى الضفة المقابلة نحو مستقبل مجهول



اليوم الثاني من التغطية في بودروم.. البحث مستمر عن قصص من قلب المعاناة.. تقرير اعددته عن سترات نجاة مغشوشة في المدينة تباع للاجئين السوريين اللذين يغرقون في البحر في محاولة للنجاة من الحرب والموت في سوريا..تقرير نال اهتماما كبيرا في الوسط الاعلامي.





اليوم الثالث من بودروم، وصلني خبر في ساعات الصباح الاولى عن غرق مركب في عرض البحر وان قوات خفر السواحل التركية قامت بانقاذ عدد من اللاجئين الى اوروبا عبر بحر ايجه، قررت وزميلي المصور ان نذهب الى مكان وقوع الحادث وهي منطقة قريبة من مار ماريس التركية وتبعد ساعة ونصف في السيارة، لكن خبرا وردنا ان الناجين سيصلون الى مرفأ بودروم ومن ثم سينقلون الى مخافر خاصة للشرطة التركية.. 
كانت التغطية يومها طويلة، استطعت الحصول على بعض الروايات لما يحصل خلال رحلة العبور الى الجهة المقابلة من البحر، واستطلعت في احياء بودروم اوضاع عائلات عراقية مسيحية هربت من عنف وبطش داعش الى تركيا في محاولة الى الوصول الى اوروبا وبدء حياة جديدة..




يعيش اللاجئون في مدينة بودروم وفي عدد من المدن التركية مأساة إنسانية في ظل انتظار فرصة مناسبة للعبور إلى الجانب الأوروبي رغم الصعاب التي تنتظر رحلتهم، فهي إذ لم تكلفهم حياتهم، تذهب بهم إلى مصير مجهول. 
يوم جديد في المدينة، وبات التعب واضحا علينا كفريق عمل، خصوصا وان متطلبات التغطية المباشرة وبعدها البحث عن قصص واعداد تقرير كانوا في غاية الصعوبة، لكننا زرنا عائلات تنتظر العبور وتحولت حياتها القاسية الى
الجديد في هذا التقرير التصوير مع لاجئين من افغانستان ينتظرون فرصة العبور الى اليونان، اضافة الى عائلة حلبية تتسول في سوق الخضار، وتنتظر بدورها الهروب الى الجهة المقابلة..
بالفعل، فوجوه اللاجئين تبدو متشابهة في هذا المكان، فهم ينتظرون من ينتشلهم من معاناتهم عبر بوابة البحر.. الى اوروبا..



قصص اللاجئين في بودروم كثيرة، ومنها قصة إسماعيل من سوريا الذي يحاول العبور إلى الجانب الأوروبي للمرة الرابعة بعد نجاته من الغرق لثلاث مرات متتالية... اسماعيل لاجىء سوري في العشرينات من العمر، وجدته في احد حدائق بودروم العامة مع فتاة لبنانية واخرى سورية معها عدد من الاطفال.. 
بعد مفاوضات طويلة وافق اسماعيل التصوير معنا، وسرد لنا قصة موجعة جدا عن محاولاته المتكررة للهروب الى اوروبا، واحلامه التي سقطت في سوريا وفي تركيا على حد سواء..
يحاول اسماعيل قدر الامكان التماسك والبدء من جديد، فاحلام هذا الشاب بالتغيير وبالعيش في كرامة انتهت، وباتت اوروبا المكان الوحيد لقلب صفحة وبدء اخرى..
صورنا بعض المشاهد داخل بلم في بحر ايجه، للحظات قمت بتجربة المعاناة اليومية لهؤلاء الاشخاص.. قصة اسماعيل محفورة في ذاكرتي وهي جزء لا يتجزأ من يوميات لجوء وحرب يومية .. 




يوم جديد وصعب مر علينا في بودروم خلال التغطية، اللاجئون السوريون يرفضون بشكل قاطع التصريح امام الكاميرا.. وحالة من القلق سادت المدينة الصيفية الهادئة.. قررت يومها ان اسلط الضوء على معاناة اللاجئين الباكستانيين المنتشرين في الشوارع وفي الاماكن العامة التركية، وينتظرون فرصة للهروب مع قوارب الموت الى اوروبا..
البعض منهم يدعي انه سوري لعله ينجح في اجتياز الضفة الاخرى، باعتبار ان باكستان لا تعاني ازمات عسكرية او حروب، لكن الفقر المدقع في تلك البلاد دفع باوسامة وغيره الى الهرب وعبور الحدود نحو غد جديد..



اليوم الاخير من التغطية مع عائلة احمد الحلبية التي تنقلت من مدينة تركية الى اخرى في محاولة للهروب الى اوروبا، بعد تعرضهما لعملية نصب من قبل احد المهربين في ازمير.. العائلة تسعى للوصول الى المانيا ولكنها تركت في الشارع ..





باختصار، انتهت ايام تغطية بودروم بتقارير انسانية تركت بصمة عاطفية في داخلي تجاه اللاجئين وقضيتهم، وعمقت الشعور باللامساواة بين البشر، على اعتبار ما يجري وجرى في سوريا، وما خلفته هذه الحرب من دمار وتشرد ومعاناة وحرقة قلب، من شانها ان تزيد الامور سوءا وان تدفع الملايين من المهاجرين واللاجئين نحو قعر الهاوية ونحو مستقبل غامض ومجهول..

اليوم الاخير تسنى لي الوقت في الاستمتاع بشمس بودروم وبحرها، وفي طريق عودتي الى بيروت، لم اتوقف عن التفكير بقصص هؤلاء.. ماذا حل باحمد واسماعيل وام محمد والعائلة الحلبية، واللاجىء الافغاني، والشاب الباكستاني، والسيدة التي نجت من غرق محتم في قلب البحر وعادت الى زوجها... 

قصص لا يمكن ان تمحى من ذاكرتي.. وبالفعل، وبرأيي الشخصي، كانت بودروم واحدة من اهم التغطيات التي قمت بها في مسيرتي المهنية التي لن انساها ما حييت..

سلمان 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نفايات ومبادرات وشلل اقتصادي..

تقارير من الميدان